الأحد، 27 نوفمبر 2011

دماء على أرض الميدان

على أرض التحرير...قابلته....رامز جبرائيل
الإسم:رامز جبرائيل
الجنسية:مصري
الديانة:مسيحي
السن:23 عاما
الكنية: ميزو "كما كان يحب أن ينادونه"
محل الإقامة:مدينة الفيوم
التاريخ:18 نوفمبر 2011
في هذا اليوم نزلت إلى الميدان تتفحص عيوني الوجوه بشوق بالغ...كنت قد وصلت لتوي إلى مصر عائدا من غربتي أشتاق لكل ما هو مصري...ورغم أن تلك البلدة الخليجية الصغيرة تكتظ بألاف المصريين إلا أنني دوما كنت أرى وما زلت أرى أن الغربة تفسد سمات الشخصية المصرية وتمسخ ملامحها جراء البعد عن الوطن واللهث الدئوب وراء المال، لذا بمجرد وصولي إلى مصر نزلت إلى الميدان الذي بات يغلي جراء الأحداث التي يعيشها كل المصريين ، كنت الوحيد الذي يصطدم بالناس فيبتسم لهم محييا أو معتذرا وكأن نفسي تاقت إلى ذلك الإلتحام والزحام الذي إبتعدت عنه طويلا رغما عني.
كان الأمر معقد وخطير للغاية دخان القنابل يصل إلى أبعد مدى فيزكم الأنوف ويشل رئتيك فلا تملك إلى أن تعدو مبتعدا أو ترتدي كمامة أو تسعل باكيا حتى تفقد وعيك ، وكل هذا كان يبدو لي عظيما وشريفا ونبيلا ، كنت أفتقد ذلك التواجد إبان ثورة 25 يناير الطاهرة ، كنت حيث أنا مغتربا أتابع ما يحدث في مصر تكاد الغيرة على بلدي تقتلني...وكان معي قلبا أخر حينذ يشاركني غيرتي ويشد على يدي مصبرا وأربت على كتفه مواسيا.
في زحمة الميدان وتخبطه والجري هنا وهناك وقفت مستندا على حافة الحديقة التي تتوسطه...ورأيته يقترب مني...شاب في أوئل العشرينات ذو شعر أشقر وملامح ريفية محببة تبدو لي نظراته حائرة بعض الشيء وفي عينيه يقينا أبصرته جليا واضحا...إقترب واسند ظهره بجواري وهو يلهث والكمامة تغطي نصف وجه والزحام حولنا شديد وخانق..إلتقت نظراتنا إبتسمت له فبادلني الإبتسام ....ثم أشاح بوجهه عني يتابع حديثا يجري بين شابتين يتحدثان عن توحش الشرطة...ثم نظر ناحيتي فوجدني ما زلت أرقبه فأشاح عن وجه الكمامة وسألني في حذر: تؤمر بخدمة؟ أعجبتني لهجته الريفية فاتسعت إبتسامتي وقولت له:عايز سلامتك...أصلك وحشتني....نظر إلي في تساؤل وقال:حضرتك تعرفني ؟ قولت له في ود:معرفكش بس اللهجة بتاعتك بئالي سنين مسمعتهاش....إقترب مني مقدار خطوتين وسألني في حذر:هو الأستاذ منين...ضحكت له مجيبا:الأستاذ من الجيزة بس بئالي سنين برة مصر وبحب لهجة أهل الفيوم....إبتسم لي إبتسامة أحببتها وفتح ذارعيه قائلا:وانت كمان وحشتني ...وأحتضنني...كان شابا ودودا يتسم بالظرف قادرا على الإبتسام رغم رائحة قنابل الغاز التي تغرقه وملابسه التي تمزقت جراء التدافع والتصادم....سألني:الأستاذ إسمه إيه؟ قلت له:إسمي ياسر من غير أستاذ....ثم سألته:وانت اسمك إيه؟ بدت على ملامحه بعض التردد ثم أجابني بصوت خافت:رامز....ضحكت له قائلا: وموطي صوتك ليه ده حتى إسمك حلو؟ بدى على وجه ملامح الخجل وقال لي بنفس الصوت الخافت:رامز جبرائيل....مسيحي.....نظرت إليه مبتسما وقلت:منور الميدان يا رامز ويا ريت كل الشباب زيك...إبتسم لي في فرح وقال بحماس:الشباب اللي زيي هنا وأحسن مني كتير أنا بحاول أكون زيهم...سألته:وانت ايه اللي جابك من الفيوم لهنا يا رامز؟ نظر إلي نظرة طويلة وقال:شفت أهالي الشهداء بيتضربوا ومصابي الثورة بيتهانوا والثورة بتتسرق وشباب بيقع فقررت انا وشوية صحاب ليا ننزل نشارك بأي شيء...ربت على كتفه محييا....ثم جذب أبصارنا رؤية شابا محمولا على الأكتاف أخذوه إلى مسجد عمر مكرم للعلاج وقد إخترق خرطوش الشرطة إحدى عينيه وذراعه تنزف دما فذهبنا خلفه نساعد بما نستطيع....الصراخ والعويل والكر والفر يجذب مسامعك من كل مكان في الميدان وهاتفي يرن ولا أجد الوقت لأرد على المتصل ولا حتى النظر إلى الهاتف لأعرف من....كل شيء حولك يحدث يأسرك تماما...شعرت أن التاريخ قد إنزوى هنا يسجل كل لحظة طاهرة تمر على ذلك الميدان ....مكثنا بعض الوقت نساعد الجرحى ونحمل إحداهم إلى الدراجة البخارية كي تنقله إلى أقرب مستشفى.
عدت حيث كنت ووقفت متاملا الميدان رأيت فنانين شرفاء يشاركون الشباب الموت والهتاف لحظة بلحظة...ها هي شيريهان تتوسط مجموعة من الفتيات وتبكي على كل مصاب يمر أمام عينها...وخالد الصاوي يسعل مختنقا من قنابل الغاز وهو يصراخ لاعنا الشرطة والمجلس العسكري وكل من يقتل شبابنا الطاهر...وعمرو واكد يحمل الطعام والماء لشباب الميدان...رأيت الفنان خالد النبوي يتحدث إلى مجموعة من المثقفين في حماس لا ينقطع...رأيت وجوها مضيئة تصدرت المشهد وكانت جزءا منه.
وقفت أرقب بتأمل وما زال الشوق يملؤني للميدان وانا واقف في منتصفه...أبصرت رامز يقترب مني مرة أخرى يكاد الإنهاك والتعب يقتلانه، إبتسمت له مشفقا...رأيته يسألني:هما بيعملوا فينا كده له؟ نظرت إليه في ود وسألته:هما مين؟ أجابني: الشرطة....قلت له بنبرة حاولت أن تكون هادئة:لأنهم إتربوا على كده وثقافتهم كده ورؤسائهم أمروهم بكده....نظر إلي رامز وظهرت على وجهه علامات الغضب وقال:لكن دول مصريين زينا والمفروض يكونوا معانا مش علينا....وضعت كتفي على كتفه وهمست له مبتسما:إظاهر أنهم مش واخدين بالهم من الحتة دي.....إبتسم لي إبتسامة خفيفة ثم سألني:إنت بتشتغل إيه يا أستاذ؟ قلت له ضاحكا ومؤنبا:أنا مش أستاذ...ضحك وعاد يسألني:طب بتشتغل ايه ياللي مش أستاذ؟ ضحكت لضحكته البسيطة وأجبته: أنا صحفي في جريدة خليجية...يبدو أن الإجابة كان خارج إطار توقعات رامز رأيت الدهشة تعلو وجهه وينظر لي غير مصدقا ويقول: صحفي!!! يعني بتكتب في الجرايد!!! ومش عايزني أقولك يا أستاذ؟ ضحكت وأجبته:أنا ياسر ومن غير أي أستاذ....إبتسم وسألني في خجل:هو احنا كده بئينا أصحاب خلاص؟ قلت له بصفاء ملأني:إحنا إخوات يا رامز مش أصحاب ومن انهاردة.....ظهرت السعادة على وجهه البريء النقي القروي ولعله لم يكن يدري أنني سعيد بأخوتنا أكثر منه....إبتعد عني رامز بضعة أمتار ورأيته يتحدث في هاتفه فقولت له بصوت عالي ضاحكا: طب والنبي ده وقت كلام مع الحب يبني إحنا في ثورة....ظهر على وجه علامة الخجل وأشار ليه بيده بعلامة النفي وهو يكمل مكالمته دون أن يجيب....إنشغلت عنه قليلا برؤية سيدة عجوز تريد عبور الميدان فذهبت إليها ممسكا يدها لنعبر الطريق سويا وسألتني:هو في ايه يبني؟ أجبتها:ثورة يا حاجة...فقالت:يا رب أنصركوا...فأجبتها:أمين .....عدت حيث كنت وكان رامز قد إنتهى من مكالمته...سألني مفاجئا:بتحب تسمع مين من المطربين؟ إبتسمت له سائلا:إشمعنى؟ قال:عايز أعرف ذوقك...أجبته:بحب محمد منير.....ضحك ضحكة عالية مجلجلة ثم إختنقت ضحكته بفعل الغاز وظل يسعل قليلا ثم قال:أنا كمان بحب محمد منير وحافظ كل اغانيه...عارف أكتر جملة بحبها في أغانيه إيه؟ سألته:إيه؟ أجابني:" الناس نامت إلاي الناس نامت إلاي واقفلك في الشباك بستنى اليوم الجاي ..يمكن يسقينا الشاي ...يمكن يعطينا الناي...أنا قد الهوى وقدود لو حتى الهوى نساي...الكون بيضيق ويضيق لكن أنا قلبي براح باصص على مين يا صديق ...على طفل معاه مفتاح".....وصمت رامز...صمت كأن الكلمات قد أيقظت بداخله شيئا...ونظر إلي صامتا...قلت له في صدق:إنت إخترت أبلغ كلام يعبر عن اللي أحنا فيه يا رامز...فكرر مرة أخرى بعين دامعة: "الكون بيضيق ويضيق لكن انا قلبي براح باصص على مين يا صديق على طفل معاه مفتاح يمكن يسقينا الشاي يمكن يعطينا الناي..أنا قد الهوى وقدود لو حتى الهوى نساي"....ضممته إلي...ربما ضممته خوفا وهربا من أن يرى دموعي التي كادت أن تسقط من طريقة نطقه للكلمات!!.
أنتبهنا إلى صيحات شباب الميدان وهم يرددون: ضرب نار برصاص حي في شارع محمد محمود....جرى رامز ناحية شارع محمد محمود وهممت بالجري وراءه فأصطدمت عيناي بالسيدة العجوز تسقط أرضا جراء التدافع الشديد من شباب الميدان فأسرعت نحوها أحملها بين يدي وأجلسها فوق رصيف قريب ...كان وجهها مخضبا بالدماء فأخذت أمسحه عن وجهها بيدي وهي تقول لي:فداكم يبني دنتوا بتموتوا عشان البلد إيه يعني أنا لما ينزل مني شوية دم على الأقل أنا خلاص رايحة لكن انتوا اللي جايين ومعاكوا الأمل...قبلت رأسها إجلالا وحبا وطلبت من أحد الشباب راكبي الدراجات أن يحملها بعيدا حيث تريد الذهاب...والتفت على صيحات الشباب مقبلين حيث أقف حاملين أحد الشباب مضرجا في دمه وأدخلوه أحدى العيادات الميدانية...ذهبت خلفهم أتابع الحالة...لم أكن قد تبينت ملامحه بعد...شققت الصفوف الملتحمة ونظرت...كان رامز...رامز جبرائيل...فاقدا الوعي..ممددا على الأرض وقد فقد إحدى عينيه والدماء تسيل غزيرة من رأسه وعينه وقدميه...إقتربت منه وأنا أشعر بدقات قلبي تكاد تتوقف ألما وخوفا عليه...رفعت رأسه وأسندتها بين ذراعي...جاء أحد الأطباء الشباب لينظر حالته...ثم تمتم بكلمات غير مفهومة...سألته عن حالته فقال لي أنه قد فقد كمية كبيرة من دمائه ونبضه ضعيف وضاعت إحدى عينيه....نظرت إلى رامز في فزع وأسى...رأيته يفتح عينيه السليمة...وينظر إلى مبتسما...كان يبتسم وينظر إلى السماء كأنه يرقب شيئا ويتمتم ببضع كلمات لم أتبينها جيدا....قلت له:رامز أنت سامعني...قال:أيوة مش انت ياسر؟ أجبته بصوت باكي:نعم أنا ياسر ...صديقك...رفع يديه الهالكتين وأزاح عن رقبته قلادة يتدلى منها الصليب ووضعها بين يدي قائلا:هذه لأمي...أمانة...وأخذ يردد في صوت خافت ووجه مبتسم تغطيه الدماء: المجد لله في الأعالي وبالناس المسرة وعلى الأرض السلام...ثم سكن جسده بين يدي...مات رامز...في غمضة عين...كان منذ دقائق معي هناك...الآن ذهب...إنتقل إلى جوار ربه....دموع كثيرة حولي تبكي رامز وصرخات بعض الأخوات تصم الأذان...كان الكل لا يعرف رامز وكان الكل موجوع لفقده...إقترب بعض الشباب عرفت أنهم من أبناء بلدته ورفعوا جسده النحيل ليضعوه داخل سيارة عائدين إلى بلدته لإجراء مراسم الدفن...وأنا واقف متسمر حيث أنا لا ادري ماذا أفعل....نظرت إلى القلادة...وضعتها في جيبي...وأتخذت طريقي إلى منطقة ميدان رمسيس.
ركبت إحدى السيارات في طريقي إلى مدينة الفيوم...السيارة تقطع الأرض في سرعة كأنها تريد اللحاق بركب "رامز" الذي أضحى شهيدا وأحسبه كذلك إن شاء الله...ساعتين هما مدة الطريق من رمسيس إلى المدينة الصغيرة حيث بيت رامز...أو هكذا أظن...فالوقت لم يكن له أي صدى بداخلي في تلك اللحظات...سألت مرة ومرات عن بيته إلى أن أهتديت إليه...واضح أن نبأ إستشهاده قد وصل إلى بيته فمراسم العزاء تبدو جلية والحزن يخيم على المكان من حولي وصراخ وعويل النساء يصل إلى مسامعي.
إقتربت من مدخل البيت فخرج لي رجلا تبدو عليه علامات الحزن وعيناه تخبران عن دموع فاضت وجفت منذ لحظات...نظر إلي في تساؤل فأجبته موفرا عليه عناء السؤال:أنا صديق رامز من القاهرة ومعايا أمانة لأمه...تقدمني إلى داخل الدار وانا خلفه...ثم أمر النساء إلتزام الصمت وأشار لي بالتقدم...وتقدمت...أحاول عبثا إبتلاع ريقي الذي جف حزنا على الشهيد...وقفت أمام والدته التي كانت تبكي بكاءا شديدا..ظللت واقفا في صمت موجع إلى أن رفعت رأسها نحوي...جثوت على ركبتي امامها وقولت لها..عظم الله أجرك في رامز ...تمتمت بكلمات لم أفهمها...أمسكت يدها الحانية ووضعت فيها القلادة...أخذت تنظر إلى القلادة وتقبلها مرة..ومرة...ومرات وهي تبكي قائلة: أنت خلاص مشيت يا رامز؟ ظلت ترددها كثيرا والنساء حولها يبكين ...ثم نظرت إلي سائلة:إنت ياسر؟؟ قلت لها في دهشة:نعم ..عرفتي إسمي منين؟؟ اجابتني:رامز كلمني عنك....أتسعت الدهشة بداخلة وسألتها:متى؟ انا عرفت رامز لساعات في الميدان...كلمك عني إمتا؟؟ أجابتني وهي تبكي:كلمني في التليفون وقالي يا أمي أنا اتعرفت هنا بصديق صحفي إسمه ياسر وهو وعدني إننا بئينا أصحاب خلاص....كان وقتها يحادث أمه الباكية وقت ان داعبته مدعيا أنه يحادث حبيته...يا الله !!! أخذت أمه تبكي وتقول: مات رامز...رحل خلاص...أمسكت يدها وقبلت رأسها وقولت لها...يا أمي رامز ممتش رامز شهيد والشهداء احياء عند ربهم يرزقون...نظرت إلى بعين ذبحتها الدموع وهي تسالني..بجد؟؟يعني دينكم بيقول كده؟؟؟ أجبتها بصوت دامع: ودينكم أنتوا كمان يا أمي بيقول كده...وقبلت يدها وأنصرفت...قدماي ثقيلتان...ألجمهما الحزن ...,ألم الفراق...سقط رامز قتيلا شهيدا...ليصبح رقما بين أعداد الشهداء...قد يكون رامز جبرائل دمه رخيص عند من قتلوه من الجلادين والسفاحين...لكنه عند الله غالي...رامز جبرائيل...كان كل شيء فيه مصري...ضحكته الصابرة...عينيه المسامحة على الدوام...قلبه الوليد الطهور بنقاء القرية وبرائتها...كان رامز جبرائيل نسمة في برد الشتاء مرت على قلبي فنزلت عليه بردا وسلاما وكان رحيله نقطة دامية أسالت الدماء داخله فاوجعني فراقه وترك داخلي ندبة لا أظنها تندمل أبدا.
سلام على رامز جبرائيل...حيث كان..سلام على ذلك الطهر الذي إغتالته اليد المدنسة...كان رامز جبرائيل صديقي.........وسيظل كذلك....تذكروا ذلك الشهيد...رامز جبرائيل وتذكروا أحب الأبيات إلى قلبه: الكون بيضيق ويضيق لكن أنا قلبي براح باصص على مين يا صديق على طفل معاه مفتاح...يمكن يسقينا الشاي يمكن يعطينا الناي...أنا قد الهوى وقدود لو حتى الهوى نساي.