الاثنين، 27 فبراير 2012

قصة قصيرة


فوق التلة
ياسر صديق
كانت مدينة مرسى مطروح هي الأمل الوحيد الباقي لترميم ما تبقى من حياتهما الزوجية...عائلتيهما إستنفذتا كل الحلول والسبل لرأب صدع الأزمات التي عصفت بزواجهما الذي...كان...سعيدا...وأخيرا إهتدى عمها إلى تلك الفكرة...أن تذهب العائلة جميعا إلى تلك المدينة الساحلية الهادئة لعل نسمات البحر وروعة المنظر ترطب من أعصابهما الملتهبة...وهناك...فوق رمال الشاطيء سارا الإثنين متجاورين وأقدامهما تتركان أثارا ثقيلة على الرمال...صامتين...عابسين...الأفكار والهواجس تعصف برأسيهما....يعمل مختار مهندس صوتيات ناجح ومتميز في إحدى القنوات الخاصة ... في الخامسة والثلاثين من عمره...شارك في ثورة 25 يناير وهتف وصرخ وندد وأقام في الخيام طوال الثمانية عشر يوما حتى التنحي وكان من القلائل الذين خرجوا من موقعة الجمل سليما معافى في بدنه...ذكي وفطن وألمعي...له أرائه الثورية التي يعجب بها البعض ويرفضها البعض...وسطي في تدينه وجانح في علاقته بربه بشكل يجعلك تندهش في كثير من الأحيان....قابلها وهو يخطو أولى خطواته العملية...كاميليا...تعمل رسامة "ديزاينر" في نفس القناة الفضائية التي يعمل بها...أعجب بأفكارها المتجردة من الخزعبلات الفكرية والهواجس الدينية الغير مبررة ... وملامحها وشعرها الأسود المنسدل على كتفيها في بساطة ومكياجها المريح وملابسها المحتشمة والأنيقة في ذات الوقت...وتزوجا...منذ ثمانية أعوام...وفي الثلاثة أعوام الأخيرة إحتدم الخلاف بينهما...لا تنكر صفية أنها هي التي بدأت بزرع تلك الهواجس والخلافات...فهي ترى أن هواجس اليوم هي حقائق الغد وخير لهما أن يواجها الهواجس يقطعا دابرها قبل أن تتحول إلى حقائق تكويها وتجلدها وتدمي كرامتها.........................
بعد أن قطعا مسافة بطول الشاطيء كانت هناك تلة مرتفعة بعض الشيء إقترح مختار أن يتسلقاها فوافقت بإيماءة من رأسها...تسلق ومد يدها ليساعدها فأعطته إياها في تأفف...إفترشا قمة التلة وجلسا متجاورين...في صمت...هي تنبش الأرض في عصبية وهو ينظر إلى البحر متأملا ومسترجعا سنوات عمرهما معا......ثم نظر إليها ليكمل حديثا كانا قد بدئاه:أحقا تريدين ذلك؟...تنهدت قائلة:هذا أفضل لك ولكرامتي أيضا....مختار في حدة:كرامتك مصانة ولا أجرؤ أنا أو غيري على مساسها...كاميليا بصوت منهك:ما يحدث من حولنا هو ما يجرح كرامتي ولست أنت أو غيرك......إلتفت إليها بجسده كله وقال في لوم:وما هذا الذي يحدث حولنا إجيبيني؟؟ تصمت كاميليا قليلا وتزفر في أسى وتقول:مختار إنك إنسان رائع ومن حقك أن تكون أب وانا لا أستطيع أن أحقق لك ذلك وخير لي ولك أن نفترق الأن قبل أن يأتي اليوم الذي تخبرني فيه أنك لم تعد تتحمل وتريد إبنا....ولو حدث ذلك فلن يتحمل قلبي وسأنكسر و....قاطعها في عصبية:لكنني لا أريد غيرك ...أنتي حبيبتي التي أحببتها منذ ثماني سنوات وتمنيتها زوجة لي ...أنتي محور كوني فلا تجعلي من ليس موجودا معنا سببا في فراق بغيض لا يتحمله قلبي....كامليا في صوت باكي:أتعلم شعور المرأة عندما تعلم أن الله قد إبتلاها أن تكون عاقر لا آثر للحياة داخلها؟؟ عندئذ يلازمها شعور انها نصف إمرأة...نصف أنثى...نصف زوجة...تعيش مشطورة إلى نصفين..نصف حيث هي ونصف إحتفظ الله به لسبب وحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه....تصمت قليلا وتنساب دموعها على خديها وتردف:تلك إرادة الله لكنني لا أحتمل أن تدفع أنت ثمن ذلك...يجلس مختار في مواجهتها مباشرة ويمسك كتفيها بيديه ويهزها في قوة ويقول:وماذا لو كان الله قد رزقنا بطفل مشوه؟ وماذا لو كان قد رزقنا بطفل عاق ؟ وماذا لو كان رزقنا بأطفال وسلب منا نحن الصحة أو مات أحدنا وتركهم للأخر يتعذب بهم وحده؟ ...نظرت إليه في حب وربتت على خده بيديها في حنان ثم لم تلبث أن نفضت عنها ذلك الضعف وهبت واقفة وأدارت ظهرها له وهي تقول:إنك تقول ذلك للتخفيف عني ولانك لا تملك البديل....ماذا لو قلت لك الأن أنني حامل؟ أجابها وعينيه تقطران حنانا عليها: كنت سأطير فرحا بك...قالت:أرأيت؟ هو بصوت يائس: وكيف لا أفرح بأن الله سيمن علي برزقه من الفتاة الوحيدة التي أحببت؟ هي في صوت مخنوق:إنك تتمناه في أعماقك وترفض الإعتراف بذلك...وضع يده على كتفيها في حب وهمس في أذنيها قائلا:أتمناه نعم...ولكن من غيرك..لا....كاميليا لا تشمتي بنا أحد لقد كنا لسنوات مثلا للسعادة والرضى فما الذي حدث؟ هي في عناد:الذي حدث أنني أكتشفت أخيرا أنني لن أنجب أبدا ويجب عليك أن تتركني وتواصل حياتك مع من ترغب لتأتي لك بأطفال ينادونك بـ"بابا"...قالتها وأنهارت على سطح التلة تبكي في حرقة...جلس بجوارها واحتضنها وهو يقول:ألم تسمعي قول الله عز وجل " لَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ" ...حبيبتي...تلك إرادة الله وأنا أريدك أنتي لا سواك...تنهره في آسى وتلفظه في عصبية وتشنج وتصرخ:لن أحتمل أن تعيش معي وقلبك نصفه معلق بأمنية لم تتحقق بسببي أنا ...إنني نصف إمرأة وانت تريد النصف الأخر...النصف الذي لا أملكه....قبل رأسها مهدئا وربت على ظهرها مخففا وهو يصرخ:أقسم بربي أن ما تقولينه مجرد هواجس داخلك أنتي فقط...لو خسرتك فسأكون خسرت كل شيء.....نظرة إليه بعين لامعة حزينة باكية وقالت: ولو عيشت معي ستكتب على نفسك حرمانا لا معنى له وسأكتب على نفسي ذلا لا أتحمله....قالتها وإتجهت لتنزل من على سطح التلة لتنهي الحديث...فأمسك يديها في رفق...نظرت إلى عينيه كأنها تودعه ونظر إليها بحب وهمس بصوت ينزف:أحبك...لا تتركيني...أحبك ولن أتوقف عن قولها أبدا..................
إستكانت يدها في يده...واستقرت عيناها على شفتيه الهامسة وقالت في لوم يشوبه الدلال:أواثق أنت من قرارك هذا؟ إحتضنها في حب وهو يردد في شوق:إشتقت إليك ....شهور وأنتي تجلدي نفسك وتجلديني بأوهام في رأسك وحدك...منعتي نفسك عني ومنعتيني أن أقربك من أجل ماذا؟؟ كاميليا إنتي المرأة التي تمنيت أن أتزوجها...لا تتركيني...هيا نعيش سويا ونكمل باقي حياتنا معا...وإذا إشتاقت نفسك إلى طفل يوما فنستطيع أن نكفل طفلا نعطيه من حناننا ويعطينا من براءته ما يخفف عنا وعنه...إندفعت إلى صدره تبكي ...وتنتحب...وتهمس:إياك أن تتركني....ستقتلني لو فعلت....أجابها ضاحكا في حب:بل سأقتل نفسي لو أبتعدتي عني يوما...ترجل من على سطح التلة ومد يده إليها قفزت بين ذراعيه في حب وأحتضنها ضاحكا وهو يقول:أنتي طفلتي الجميلة وستظلين طوال عمرك....لكزته في كتفه في دلع ضاحك وهي تقول:سأسجل كلماتك تلك لأذكرك بها لو نكثت بوعدك يوما...تتعالي ضحكته وهي يقول:والله على ما أقول شهيد....سارا سوا عائدين بغير الوجه الذي ذهبا به...تسبقهما الضحكة وتصاحبهما البسمة وأيديهما متشابكة وخطواتهما متسارعة متلاحقة كأنهما على موعد مع عزيز.....وعلى بعد مسافة ليست ببعيدة وقف عمها يرقبهما في صمت وهي يمني نفسه بأن تكون الأمور قد تحسنت بينهما....إقتربا منه...سألهما في حذر: لعل الله قد جعل في تلك التلة سرا لا يعلمه إلا هو ؟.... كاميليا بصوت ضاحك:نعم يا عماه لقد أصبحت تلة حبنا....ويردف مختار باسما:كادت أن تلقيني من فوقها إلى أن ذكرتها بأيامنا الخوالي....إحتضنهما العم في سعادة وربت على كتفيهما قائلا:إن الحب وحده الذي يبقى دون سواه...أياكما عن تتخليا عن ذلك الرابط.....مالت كاميليا برأسها على رأس مختار وهي تقول في حب: نعم يا عمي لقد أيقنت ذلك أخيرا ...مختار هو كل حياتي الماضية والأتية...ليكمل مختار في وله:يا عماه يعلم الله أني لا أبيع كاميليا بكنوز الأرض.....
بعد مرور أربعة سنوات ترقى مختار ليشغل منصب كبير مهندسي الصوت في القناة وتلقت كاميليا دورة تدريبة في ميونيخ عادت بعدها لتشغل منصب رفيع داخل قسم الديزاينر...وفي عيد زواجهما الثاني عشر جلسا على منضدة أنيقة داخل كافيه تعودا أن يجلسا فيه منذ أن تعارفا...وعلى ضوء الشموع تحدث مختار...وتكلم...تكلم كثيرا ...وكاميليا تستمع في حب وضوء الشموع يعكس بريق عينيها ...سألته:أتحبني حقا لهذه الدرجة التي أشعر بها...أجابها وهي يمسك يديها في حنان:عن أي درجة تتحدثين!!! إن ما في قلبي يفوق ما تشعرين به ألاف المرات....نظرت إليه في حب وقالت:أغمض عينيك....أجابها ضاحكا:هدية عيد الزواج تكون غالبا من الرجل وليس العكس...همست في عتب ضاحك:لا تكن سخيفا أغمض عينيك...وأغمض....همست:إفتح....فتح فوجد أمام عينيه ورقة لم يتبين ما كتب فيها...سألها:ما هذا....قامت وقبلت خده في حب وهمست:هذا تقرير طبي يقول أنني حامل في الشهر الثاني...
جلس مختار صامتا...ثم بكى...ثم ضحك..ثم هلل فرحا...ثم قام وأحتضنها وظل يقبلها ....سألته:كل هذه الفرحة من أجل الجنين يا حبيبي...أجابها وهو يضع يديه على خديها في حنان: بل كل هذه الفرحة لأن الله قد رزقني بطفل من المرأة الوحيدة التي أحببت....وخرجا من الكافيه وقد تأبطت ذراعه وهي تهمس: ما رأيك في أجازة قصيرة؟؟؟ أجابها ضاحكا:شرط أن تكون في مرسى مطروح.......علت ضحكتها وهي تقول:نعم ....فوق تلك التلة...تلة حبنا.