الخميس، 26 يناير 2012

زخات مطر على جبين الذكريات


زخات مطر على جبين الذكريات
كعادته...وقف الخبير الإستراتيجي د.مازن الرشيدي متأملا السماء التي بدت ملبدة بالغيوم وهو ما أضفى قناعة بداخله أن ثمة أمطار ستهطل بعد قليل...كما تعود...خلف زجاج نافذة مكتبه الأنيق وقف يرقب شاردا...لم يقطع تأمله وشروده إلا صوت الساعي وهو يقول هامسا خشية إزعاجه:دكتور مازن هل ستسهر اليوم أم إنتهيت من عملك؟ إلتفت إليه مازن ولم يكن قد خلص من شروده بعد فوقف يطالعه في صمت ثم أجاب في صوت جاء هامسا:نعم محمد سأغادر الآن فأنا مجهد وأحتاج إلى الراحة.....وأخذ حقيبته الأنيقة ململما أوراقه وقطع الردهة الفاصلة بين مكتبه  والمصعد لتصطدم عيناه بورقة معلقة مكتوب عليها "المصعد معطل" ، مط شفتيه في ضجر وقطع درجات السلم في بطء ....وخارج البناية التي تضم مكتبه في حي الزمالك الراقي...وقف مازن يتأمل السماء...
كانت دائما السماء ملجأ عينه...ومحط يقينه...ومستودع أسراره.... وكان ذلك الطقس الشتوي الضبابي يفعل في نفسه الكثير...كان يعيده إلى الوراء لأكثر من عشرين عاما....تأمل ملامحه في زجاج سيارته وقد كسى الشيب فوديه وألقت السنين رماحها فحفرت في وجهه تجاعيد لم تستطع ان تمحو أثار وسامة قديمة لا زالت تحتفظ بشموخها ...وقرر أن يقطع طريقه إلى البيت سيرا في ظل ذلك الطقس الذي يعشقه....كان بيته في نفس الحي...يبعد مسافة شارعين عن مكتبه...كان يسير في بطء...شاردا ومستمتعا ومتذكرا....أعادته ذكرياته إليها...هي....مريم...ذلك الحب الذي لا يأتي مرتين...كان هو شابا تخرج حديثا من كلية سياسة وإقتصاد بتقدير إمتياز والأمل في سلم وظيفي مرموق يزاحم أفكاره...كان من تلك الطبقة الإجتماعية المتوسطة التي فرمها بلدوزر الفساد السياسي والإجتماعي الذي طحن عظام الجميع ....وهي كانت في السنة النهائية في نفس الكلية...جمعهما الحب...حب جارف...ورغم طبقتها الإجتماعية الرفيعة إلا أنها كانت تراه أكثر الناس ثراءا بذكاءه المتقد وتفوقه الدائم على كل أقرانه...وبحبه لها أيضا...تذكر كيف كان يقضي اليوم معها في ضحك وحديث شجي لا ينقطع....وحديثهما وقت الخصام...كثيرا ما كانا يتخاصما وسرعان ما يتصالحا...كان وقت التشاحن يهاتفها فيأتي صوتها مؤنبا...آلو....فيأتي صوته دافئا: أحبك....فتصمت في دلال ...فيكرر:أحبك...فتكتم ضحكة تكاد تخرج على الرغم منها وتقول في لوم:الآن فقط تذكرت؟....فيضحك مجيبا:لو نسيتك فمن أتذكر؟ ...
كان ما بينهما طاهرا نقيا والأمل فسيحا...وعصفت الدنيا بذلك الحب...هي الدنيا التي دائما ما تنقلب بأهلها...لتثبت أن دوام حالها محال على مر العصور...كانت تعشقه...بل تهيم به عشقا ولا ترى في الدنيا رجلا سواه...إلا أنه جذورها الإرستقراطية كثيرا ما كانت تنضح في تصرفاتها فيقف ذلك حائلا بين حبهما...كانت في كثير من الأحيان ورغما عنها تتحدث إليه بشكل يشعره بنوع من الإستعلاء والفوقية وكان هذا يخيفه...وكان هو يراها "كيوبيد" قلبه...يحبها بصدق...لكنه كان يحب كرامته أكثر...وبين فوران إستعلائها وكرامته المهددة باعدت بينهما الأيام...فالشهور...فالسنين...عشرون عاما مروا منذ أن وقعت عيناه عليها.........أفاق مازن من شروده وذكرياته على قطرات مطر نزلت على جبينه فرفع رأسه متأملا السماء والمطر يزداد هطولا فأسرع الخطى بعض الشيء وصوتها يتردد داخل عقله وبين ضلوعه وهي تقول:هل ما بيننا إلى زوال؟؟ فيجيبها بعين حزينة:زوال ما بيننا ليس خاضعا لقوانين طبيعة هذا الكون...حبي لك أطهر من ذلك وأكبر.
وعلى باب شقته تنامى إلى مسامعه صوت كوكب الشرق ففتح الباب...كانت شقيقته تستمع ...طالعته بنظرة حانية وهي تقول:المطر وأم كلثوم دائما ....دائما أرى تلك النظرة في عينيك عندما يلتقيان سويا...طالعها في صمت ولم يجب....سألته:أعد لك الغداء؟ هز رأسه موافقا في صمت....وجلس على أقرب مقعد متأثرا ينظر إلى المذياع وصوت أم كلثوم يجلد مشاعره وهي تقول:كل نار تصبح رماد ما تئيد...إلا نار الشوق يوم عن يوم بتزيد...فانحدرت دمعة حبيسة أبت إلا أن تنهمر على وجنتيه .....وهز رأسه موافقا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق